إعلان

"تزويج" الأطفال في زمن الحداثة

"تزويج" الأطفال في زمن الحداثة

10:26 م الأربعاء 09 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم: د. هبة صلاح

باحثة ومترجمة بدار الإفتاء المصرية

تَدَاول رواد مواقع التواصل الاجتماعي خبراً ومقاطع فيديو لحفل خِطبة طفلين في محافظة كفر الشيخ على مدار الأسابيع الماضية لتكون من أهم الأخبار في نهاية عام 2018، وبالطبع تصدرت التعليقات الساخرة المشهد ليس بسبب غرابة الواقعة وإنما بسبب موقف آباء الطفلين بطلي هذا المشهد العبثي.

أظهرت مقاطع الفيديو التي تم نشرها طفلاً وطفلة أعمارهما 13 و12 عام في المرحلة الإعدادية من التعليم وهما يرقصان في حفل خطبتهما وجميع "الأطفال" في مثل عمرهما يمرحون معهما ويعبرون عن فرحة الأطفال في مشهد غير مفهوم لتخرج علينا والدة الطفل "العريس" في مداخلة هاتفية في أحد البرامج المذاعة على القنوات الفضائية لترد على سؤال وجهته إليها الإعلامية أثناء الحوار مستنكرة هجوم الإعلام على هذا الحفل. حيث جاء ردها على سؤال "حضرتك مش شايفة إنه ابنك طفل صغير على الخطوبة؟" ليزيد الطين بَلّة: "احنا في زمن الفيسبوك مفيش الكلام ده"!

فهل "تزويج القُصّر" في زمن الفيسبوك والتكنولوجيا الحديثة بكل صورها أصبح من المباحات على اعتبار أن كل شيء أصبح تحت أمرنا بضغطة زر؟ وهل زمن الفيسبوك يعني أن نتخلى عن العلم والقانون ونلق بأنفسنا ومن نعول إلى التهكلة؟ أما السؤال الأهم: "هل وصلنا إلى هذا الحد من الجهل في زمن تكنولوجيا المعلومات، أم ما نشهده مجرد حالة من السيولة المعرفية يضيع معها العلم؟"

كشفت هذه المداخلة عن الوجه القبيح للعادات والتقاليد التي تجرد الإنسان من حريته وحقوقه، فتزويج القُصّر ما هو إلا تعد على حقوق الأطفال سواء الإناث منهم أو الذكور وهدم لمستقبلهم ومستقبل مجتمعاتهم لما تتركه هذه التجربة من أثر في نفوسهم وتحملهم أعباء ليست على قدر طاقاتهم ومن ثمّ فهناك حتمًا تشويه وطمس لهذه الطفولة، والطامة الكبرى تأتي من المجاهرة بهذه العادات واعتبارها مصدرا للفخر يتباهى بها أولياء الأمور بحجة أننا في عصر الفيسبوك (كل شيء مباح) كما يراه البعض على هذا العالم الأزرق أو العالم الافتراضي.

ينبغي لنا أن نقف عند القاعدة الفقهية التي نصها "العادة مُحكِمة" وهذا يعني أنه يمكن النظر إلى العادات والتقاليد السائدة في بيئة أو مجتمع ما لإصدار الحكم الشرعي لكن إذا كانت لا تتعارض مع أحكام الشرع (فالأمر ليس على إطلاقه كما يعتقد البعض من العامة)، ومن هذه المسائل التي يلجأ فيها الفقهاء إلى هذه القاعدة الفقهية مسائل منها على سبيل المثال الزواج والنفقة والمهر ودخول العاقد بزوجته المعقود عليها قبل حفل الزفاف...إلخ. في بعض المجتمعات الدخول بالزوجة بعد العقد وقبل الزفاف سرا غير مقبول "عرفًا" إلا أنه حلال شرعا، غير أن العادة تحكم هذه الأمور ويجب احترامها عند التحكيم في مثل هذه الحالة التي يكون فيها الزوج والزوجة قد بلغا السن القانونية للزواج أو تخطيا سن الرشد، ولديهم كامل الأهلية لرفض أو قبول الزواج.

أما إذا نظرنا إلى تزويج الأطفال استنادا إلى هذه القاعدة الفقهية لنقول إن هذه هي عادات المجتمع الريفي أو أي مجتمع آخر ولابد أن نحترمها، فلابد أن يكون لنا وقفة نفصل فيها الأمور ونزيل اللبس عن مفهوم تزويح القُصّر.

كلمة "قاصر" في لغة أهل الفقه تعني العاجز عن التصرفات الشرعية، وفي لغة أهل القانون تعني من لم يبلغ سن الرشد بعد، وفي كلتا الحالتين المعنى هو هذا الشخص الذي يعجز عن تحمل المسؤولية بنفسه ومازال تحت رعاية وحماية وصيّ، فلا يستطيع أن يقرر بنفسه أو لنفسه، لكن للأسف الواقع في بعض المجتمعات يأتي مغايرا لهذا المعنى تماما. جاء في آخر التقارير الصادرة عن "الحوار الإقليمي لدول شمال أفريقيا حول زواج الأطفال وختان الإناث والذي عقده المكتب الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة للدول العربية في الفترة من 12-13 من نوفمبر 2018 في القاهرة، وكان لي شرف المشاركة في فعالياته، أن واحدة من بين خمس فتيات تزوجن قبل سن 18 وهو سن الزواج القانوني في منطقة الشرق الأوسط، وعرض التقرير لدور القيادات والمؤسسات الدينية في اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال هذه الظاهرة التي تقف بالفعل عائقا أمام تنمية المجتمعات وتعتبر من أحد أهم أسباب ارتفاع نسب الطلاق في المجتمعات العربية ومصر على رأس القائمة.

إن اختيار لفظة تزويج" وليس زواج الأطفال هي الأفضل في توصيف هذه الحالة لأن الطفل/الطفلة شخص مسلوب الإرادة وليس لديه الأهلية للموافقة أو رفض ذلك، فيتم تزويجه/تزويجها بإرادة الأهل لا بإرادة الطفل، والطامة الكبرى أن من تفعل ذلك في ابنتها أو ابنها هي في الأساس الأم، التي أيضا تزوجت دون سن 18 وتظل المجتمعات الريفية هكذا في حلقة مفرغة، حتى في وجود فتاوى وقانون يمنع ذلك.

فالحل إذن هو "تجريم" تزويج القُصّر لتكون جريمة يُعَاقب مرتكبيها بأشد العقوبات، أما دور المؤسسات في ذلك لا يقتصر فقط على المؤسسة الدينية الرسمية، إنما يمتد ليشمل مؤسسة الأسرة في الأساس يليها المؤسسة الإعلامية ثم المؤسسة التعليمية (مرحلة التعليم الأساسي).

تزويج الأطفال قنبلة موقوتة يتجلى أثرها في ارتفاع معدلات الطلاق والاستهانة بمؤسسة الزواج، حيث يسعى الآباء في بعض الفئات الاجتماعية إلى تزويج بناتهن في سن صغيرة حتى يتخلصوا من أعباء النفقات والالتزامات، وفي أحوال كثيرة تكون الفتاة سلعة تُباع لمن يدفع أكثر وتظل الدائرة تدور بين أب طمّاع ومجتمع يشجب ويدين! وبالتالي نخرج من إطار الإنسانية التي تقرها الأديان كافة إلى إطار اللاشيء الذي يدعمه العالم الافتراضي، ولذلك فستظل الأسرة المتوازنة التي تقوم على مبادئ تكافؤ الشريكين هي الأساس لأي مجتمع تحكمه "الأخلاق والقيم".

إعلان